الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الحرج في اللّغة بمعنى الضّيق يقال حرج الرّجل: أثم، وصدر حرج: ضيّق، ورجل حرج: آثم، ويقال: تحرّج الإنسان تحرّجا أي فعل فعلا جانب به الحرج، وهذا ممّا ورد لفظه مخالفا لمعناه، ويطلق الحرج في اللّغة على معان أخرى لكنّها لا تخرج في دلالتها عن معنى الضّيق وما يلزمه من المعاني المجازيّة كالإثم والحرام. ومن إطلاقاته أيضا: الموضع الّذي فيه أشجار كثيرة لا تصل إليه الرّاعية، يقال: هذا مكان حرج أي ضيّق كثير الشّجر. ويفهم من استعمالات الفقهاء لكلمة الحرج أنّه يطلق على كلّ ما تسبّب في الضّيق، سواء أكان واقعا على البدن، أم على النّفس، أم عليهما معا. وأمّا عند الأصوليّين: فهو كلّيّ مشكّك بعض أفراده أقوى من بعض ولا يعتبر كلّ مرتبة منه، بل ما ثبت من الشّارع اعتباره حرجا. ورود لفظ الحرج في الكتاب والسّنّة: 2 - ورد لفظ الحرج في القرآن الكريم، فتارة فسّر بمعنى الإثم كما في قوله تعالى: {ليس على الضّعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله}، وتارة فسّر بمعنى الشّدّة والضّيق كما في قوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا تسليما}. وكذلك في السّنّة: وردت كلمة الحرج بكثرة وأغلبها يعود إلى المعاني التّالية: - الإثم: كما في قوله صلى الله عليه وسلم {حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج} أي ولا إثم عليكم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم. - الحرام: كما روى أبو هريرة مرفوعا {اللّهمّ إنّي أحرّج حقّ الضّعيفين: اليتيم والمرأة}: أي أحرّم. - الضّيق والشّدّة: كقول ابن عبّاس حينما سئل عن أسباب أمره المؤذّن أن يقول: صلّوا في بيوتكم " بدلا من " حيّ على الصّلاة: إنّي كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطّين والدّحض
أ - الرّخصة: 3 - الرّخصة في اللّغة اليسر والسّهولة يقال: رخص السّعر إذا تراجع، وسهل الشّراء. وفي الشّريعة: عبارة عمّا وسّع للمكلّف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السّبب المحرّم. كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء رمضان عن المسافر. وهذا هو المراد من عبارات الأصوليّين، وهو المعنى الحقيقيّ للرّخصة. والعلاقة بين الرّخصة والحرج الضّدية. وتفصيل ذلك في مصطلح: (رخصة) والملحق الأصوليّ. ب - العزيمة: 4 - العزيمة في اللّغة عبارة عن القصد المؤكّد، ومنه قوله تعالى: {ولم نجد له عزما}. وفي الشّريعة لها تعريفات كثيرة أقربها ما عرّفها به الغزاليّ وهو: أنّ العزيمة عبارة عمّا لزم العباد بإيجاب اللّه تعالى». وتفصيل ذلك في مصطلح: (عزيمة) والملحق الأصوليّ. ج - المشقّة: 5 - المشقّة في اللّغة بمعنى الجهد والعناء والشّدّة، يقال: شقّ عليه الشّيء يشقّ شقّا، ومشقّة إذا أتعبه، ومنه قوله تعالى: {لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس}. د - الضّرورة: 6 - الضّرورة اسم من الاضطرار ومأخوذة من الضّرر، وهو ضدّ النّفع. وفي الشّرع بلوغ الإنسان حدّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام. وتعتبر حالة الضّرورة من أعلى أنواع الحرج الموجبة للتّخفيف. وتفصيل ذلك في مصطلح: (ضرورة) والملحق الأصوليّ. هـ - الحاجة: 7 - الحاجة في الأصل: الافتقار إلى الشّيء الّذي يوفّر تحقّقه رفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب، ولكنّها لو لم تراع لم يدخل على المكلّف الفساد العظيم المتحقّق لفقدان المصالح الضّروريّة. كالجائع الّذي لو لم يأكل لم يهلك. والحاجة قد تنزّل منزلة الضّرورة لاعتبارات معيّنة.
8 - الحرج مرفوع شرعا لقوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدّين من حرج} ومنه القاعدة الفقهيّة: المشقّة تجلب التّيسير " قال الفقهاء: على هذه القاعدة يتخرّج جميع رخص الشّرع كالتّخفيف لأجل السّفر والمرض ونحوها. ومثلها قاعدة: الضّرورات تبيح المحظورات». كأكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللّقمة بالخمر ونحوها. وتفصيل ذلك وما يترتّب على الحرج من أحكام في الملحق الأصوليّ.
1 - الحرّ من الرّجال خلاف العبد، وسمّي حرّا لخلوصه من الرّقّ، وهو مأخوذ من قولهم: رجل حرّ إذا خلص من الاختلاط بغيره، وجمع الحرّ أحرار، والحرّة خلاف الأمة، والحرّة أيضا الكريمة، وجمعها حرائر على خلاف القياس، كشجرة مرّة وشجر مرائر، ويستعار الحرّ أيضا للكريم، كالعبد للّئيم. وهو في اصطلاح الفقهاء: من خلصت ذاته عن شائبة الرّقّ والملك، وهو ضربان: ضرب استقرّت له الحرّيّة فذاك، وضرب يحكم بحرّيّته ظاهرا كاللّقيط.
أ - المبعّض: 2 - المبعّض هو من بعضه حرّ وبعضه مملوك، وتعرف أحكامه بالرّجوع إلى مصطلح (تبعيض) ب - العبد: 3 - العبد هو المملوك من الذّكور خاصّة. قال الزّرقانيّ: وإن كان لفظ العبد يشمل الأنثى شرعا نحو {وما ربّك بظلّام للعبيد} لكنّ العرف أصل من أصول الشّرع يخصّص العامّ ويقيّد المطلق. وهو يصدق على القنّ، وهو من ملك هو وأبواه، أو هو الّذي لم ينعقد له سبب الحرّيّة. وعلى المدبّر: وهو من علق عتقه بالموت الّذي هو دبر الحياة. وعلى المكاتب: وهو من علق عتقه بلفظ الكتابة وبعوض منجّم بنجمين فأكثر. ج - الأمة: 4 - الأمة وهي الأنثى من المماليك سواء أكانت كاملة العبوديّة أم مكاتبة أم مدبّرة، ولفظ الأمة يصدق على أمّ الولد، وهي الّتي أحبلها سيّدها فولدت حيّا أو ميّتا، أو ما تجب فيه غرّة كمضغة فيها صورة آدميّ ظاهرة أو خفيّة أخبر بها القوابل. الأحكام الإجماليّة: 5 - الأصل في الإنسان الحرّيّة، والرّقّ طارئ على الإنسان، والأصل في أحكام الشّريعة أنّها للأحرار، ويوافق الرّقيق الأحرار في أغلب الأحكام، وهناك أحكام يختصّ بها الرّقيق تنظر في مصطلح: (رقّ). الحرّ لا يدخل تحت اليد: 6 - وهي قاعدة فقهيّة تذكرها كتب القواعد ومعناها: أنّ الحرّ لا يستولى عليه استيلاء الغصب والملك فلا يباع ولا يشترى، ومن فروعها أنّه لو حبس إنسان حرّا ولم يمنعه الطّعام حتّى مات حتف أنفه أو بانهدام حائط ونحوه لم يضمنه، ولو كان عبدا ضمنه، ولا يضمن منافعه ما دام في حبسه إذا لم يستوفها، ويضمن منافع العبد. ومن فروعها أيضا أنّ ثياب الحرّ وما في يده من المال لا يدخل في ضمان الغاصب، لأنّها في يد الحرّ حقيقة، وكذا لو كان صغيرا أو مجنونا على الأصحّ.
1 - الحرز في اللّغة: الموضوع الّذي يحفظ فيه الشّيء، والجمع أحراز، تقول: أحرزت الشّيء أحرزه إحرازا إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ. وللحرز معان أخرى منها: الموضع الحصين: يقال: هذا حرز حريز، للتّأكيد، كما يقال: حصن حصين. والتّعويذة. والنّصيب، كما يقال. أخذ حرزه. أي نصيبه. وفي الاصطلاح: هو ما نصب عادة لحفظ أموال النّاس، كالدّار، والحانوت، والخيمة، والشّخص. وقال ابن رشد: الأشبه أن يقال في حدّ الحرز: إنّه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الأغلاق والحظائر. والفقهاء متّفقون على أنّ تحديد الحرز مرجعه إلى العرف والعادة. قال الغزاليّ: والحرز ما لا يعدّ المالك أنّه مضيّع لماله إذا وضعه فيه. ومرجعه العرف لأنّه ليس له ضابط لغة ولا شرعا، كالقبض في المبيع والإحياء في الموات. والعرف يتفاوت، ولذلك فهو يختلف باختلاف الأحوال، والأوقات.
2 - الأخذ من الحرز شرط من شروط القطع في السّرقة للمال المملوك عند جمهور الفقهاء، فلا يجب القطع حتّى ينفصل المال عن جميع الحرز، ولذلك إذا جمع المتاع ولم يخرج به من الحرز لا يجب القطع، وإليه ذهب عطاء، والشّعبيّ، وأبو الأسود الدّؤليّ، وعمر بن عبد العزيز، والزّهريّ، وعمرو بن دينار، والثّوريّ، ومالك والشّافعيّ، وأهل الرّأي. قال ابن قدامة: لا نعلم لأحد من أهل العلم خلافا، إلاّ قولا حكي عن عائشة والحسن والنّخعيّ فيمن جمع المتاع ولم يخرج به من الحرز عليه القطع. والأصل في اشتراط الحرز ما روي في الموطّأ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: {لا قطع في ثمر معلّق ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجنّ} وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: {ليس في شيء من الثّمر المعلّق قطع إلاّ فيما آواه الجرين. فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجنّ ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليّة وجلدات نكال}. واختلف الفقهاء فيما يعتبر به المال محرزا، فقال بعضهم: يعتبر محرزا بالملاحظة أو حصانة الموضع. وفي المسألة تفصيل ينظر في سرقة وقطع.
الحرز نوعان: 1 - الحرز بالمكان: 3 - وهو كلّ بقعة معدّة للإحراز ممنوع الدّخول فيها أو الأخذ منها إلاّ بإذن كالدّور، والحوانيت، والخيم، والخزائن، والصّناديق. فهذا النّوع يكون حرزا بنفسه سواء وجد حافظ أم لا، وسواء كان الباب مغلقا، أو مفتوحا، لأنّ البناء يقصد به الإحراز وهو المعتبر بنفسه، بدون صاحبه، لأنّه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء الجرين والمراح من غير شرط وجود الحافظ، لصيرورة كلّ منهما حرزا. 2 - الحرز بالحافظ: 4 - ويكون في كلّ مكان غير معدّ للإحراز، يدخل إليه بلا إذن، ولا يمنع منه كالمساجد والطّرق، فهذا النّوع حكمه حكم المفاوز والصّحراء إن لم يكن هناك حافظ قريب من المال يمكنه حفظه، فإن كان فهو محرز به. وفي المسألة تفصيل وخلاف ينظر في (سرقة، وقطع). والفرق بين النّوعين: أنّ القطع لا يجب بالأخذ من الحرز بالمكان إلاّ بالإخراج منه عند جمهور الفقهاء، لأنّ يد المالك قائمة ما لم يخرجه، فلم تتمّ السّرقة. وأمّا المحرز بالحافظ فيجب القطع بمجرّد أخذه، لأنّ يد المالك تزال بمجرّد الأخذ، فتمّت السّرقة.
5 - فصّل الفقهاء الكلام حول الحرز في باب السّرقة عند الكلام عن شروطها، وفي العقود الّتي لها ضمان كالوديعة وغيرها. وباب السّير عند الكلام عن الغنيمة. وينظر مصطلح (قبض).
1 - الحرفة اسم من الاحتراف وهو الاكتساب، يقال: هو يحرف لعياله ويحترف. والمحترف: الصّانع، وفلان حريفيّ، أي معامليّ، وجمعه حرفاء. والمحرّف: الّذي نما ماله وصلح، والاسم: الحرفة. والحرفة: الصّناعة وجهة الكسب. وفي حديث عائشة: لمّا استخلف أبو بكر رضي الله عنهما قال: لقد علم قومي أنّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، واحترف للمسلمين فيه. أراد باحترافه للمسلمين نظره في أمورهم وتثمير مكاسبهم وأرزاقهم. ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الحرفة عن المعنى اللّغويّ فهم يعتبرون كلّ ما كان طريقا للاكتساب حرفة ومن ذلك الوظائف. يقول ابن عابدين: الوظائف تعتبر من الحرف، لأنّها صارت طريقا للاكتساب. وفي نهاية المحتاج: الحرفة هي ما يتحرّف به لطلب الرّزق من الصّنائع وغيرها.
2 - صنعة - كسب - عمل - مهنة: هذه الألفاظ ترادف الحرفة بمعنى الطّريقة الّتي يكتسب بها. وقد يكون الكسب والعمل والمهنة أعمّ من الحرفة إذ قد يكون كلّ منها حرفة وقد لا يكون. والحرفة أعمّ من الصّنعة. إذ الصّنعة تكون في العمل باليد في حين أنّ الحرفة قد تكون باليد قد تكون بالعقل والتّفكير. وينظر تفصيل معاني هذه الألفاظ في أبحاث (احتراف - اكتساب - امتهان).
3 - القيام بالحرف في الجملة فرض كفاية وقد ينقلب إلى فرض عين، وتفصيل ذلك في مصطلح: احتراف فقرة 10.
أوّلا: الصّلاة بثياب الحرفة: 4 - طهارة الثّوب والبدن والمكان شرط من شروط الصّلاة. ومن كانت حرفته تصيب النّجاسة بسببها ثوبه، أو بدنه كالجزّار والكنّاس فإنّه يجعل لنفسه ثوبا طاهرا للصّلاة فيه، أو يجتهد في إبعاد ثوبه عن النّجاسة. فإن تعذّر إعداد ثوب آخر، وتعذّر إبعاد ثوبه عن النّجاسة. وغلب وصول النّجاسة للثّوب فإنّه يصلّي فيه، ويعفى عن النّجاسة بالنّسبة إليه لدفع الحاجة. بهذا صرّح المالكيّة. وقال ابن قدامة: من لم يجد إلاّ ثوبا نجسا قال أحمد: يصلّي فيه ولا يصلّي عريانا وهو قول المزنيّ. وقال الشّافعيّ وأبو ثور: يصلّي عريانا ولا يعيد لأنّها سترة نجسة فلم تجز له الصّلاة فيها كما لو قدر على غيرها، وقال أبو حنيفة: إن كان جميع الثّوب نجسا فهو مخيّر في الفعلين، لأنّه لا بدّ من ترك واجب في كلا الفعلين، وإن كان صلاته في الثّوب النّجس أولى، لأنّه بالصّلاة في الثّوب النّجس يستر عورته وستر العورة واجب في الصّلاة وخارجها.
ثانيا: وقت الصّلاة للمحترف: 5 - الصّلاة في أوقاتها واجبة على كلّ مسلم مكلّف. وصاحب الحرفة إذا كان أجيرا خاصّا لمدّة معيّنة فإنّ الإجارة لا تمنعه من أداء المفروض عليه من الصّلاة ولا يحتاج لإذن المستأجر في ذلك، ولا ينقص ذلك من أجره. وفي أداء السّنن خلاف. وينظر تفصيل ذلك في (إجارة، صلاة).
ثالثا: صيام أصحاب الحرف: 6 - صيام رمضان فرض على كلّ مسلم مكلّف، ولا يعفى من أداء الصّيام في وقته إلاّ أصحاب الأعذار المرخّص لهم في الفطر كالمريض والمسافر. أمّا بالنّسبة لأصحاب الحرف فمفاد نصوص الفقهاء أنّه إن كان هناك حاجة شديدة لعمله في نهار رمضان، أو خشي تلف المال إن لم يعالجه، أو سرقة الزّرع إن لم يبادر لحصاده، فله أن يعمل مع الصّوم ولو أدّاه العمل إلى الفطر حين يخاف الجهد. وليس عليه ترك العمل ليقدر على إتمام الصّوم، وإذا أفطر فعليه القضاء فقط. وفيما يلي بعض النّصوص في ذلك: فقد نقل ابن عابدين عن الفتاوى: سئل عليّ بن أحمد عن المحترف إذا كان يعلم أنّه لو اشتغل بحرفته يلحقه مرض يبيح الفطر وهو محتاج للنّفقة هل يباح له الأكل قبل أن يمرض فمنع من ذلك أشدّ المنع، وهكذا حكاه عن أستاذه الوبريّ. وسئل أبو حامد عن خبّاز يضعف في آخر النّهار هل له أن يعمل هذا العمل قال: لا، ولكن يخبز نصف النّهار ويستريح الباقي، فإن قال لا يكفيه كذّب بأيّام الشّتاء فإنّها أقصر فما يفعله فيها يفعله اليوم. وقال الرّمليّ في جامع الفتاوى: لو ضعف عن الصّوم لاشتغاله بالمعيشة، فله أن يفطر ويطعم لكلّ يوم نصف صاع إذا لم يدرك عدّة من أيّام أخر يمكنه الصّوم فيها وإلاّ وجب عليه القضاء. وعلى هذا الحصاد إذا لم يقدر عليه مع الصّوم ويهلك الزّرع بالتّأخير، لا شكّ في جواز الفطر والقضاء، وكذا الخبّاز وفي تكذيبه نظر، فإنّ طول النّهار وقصره لا دخل له في الكفاية. قال ابن عابدين: والّذي ينبغي في مسألة المحترف - حيث كان الظّاهر أنّ ما مرّ من تفقّهات المشايخ لا من منقول المذهب - أن يقال: إذا كان عنده ما يكفيه وعياله لا يحلّ له الفطر، لأنّه يحرم عليه السّؤال من النّاس فالفطر أولى، وإلاّ فله العمل بقدر ما يكفيه، كأن يعلم أنّ صيامه مع العمل سيؤدّيه إلى الفطر يحلّ له إذا لم يمكنه العمل في غير ذلك ممّا لا يؤدّيه إلى الفطر، وكذا لو خاف هلاك زرعه أو سرقته ولم يجد من يعمل له بأجرة المثل وهو يقدر عليها. ولو آجر نفسه في العمل مدّة معلومة فجاء رمضان فالظّاهر أنّ له الفطر، وإن كان عنده ما يكفيه إذا لم يرض المستأجر بفسخ الإجارة، كما في الظّئر فإنّه يجب عليها الإرضاع بالعقد، ويحلّ لها الإفطار إذا خافت على الولد فيكون خوفه على نفسه أولى. وفي التّاج والإكليل من كتب المالكيّة: نقل ابن محرز عن مالك في الّذي يعالج من صنعته فيعطش فيفطر، فقال: لا ينبغي للنّاس أن يتكلّفوا من علاج الصّنعة ما يمنعهم من الفرائض وشدّد في ذلك. فقال ابن محرز: يحتمل أن يكون إنّما شدّد في ذلك لمن كان في كفاية من عيشه أو كان يمكنه من التّسبّب ما لا يحتاج معه إلى الفطر، وإلاّ كره له. بخلاف ربّ الزّرع فلا حرج عليه. وفي نوازل البرزليّ: الفتوى عندنا أنّ الحصاد المحتاج له الحصاد، أي ولو أدّى به إلى الفطر وإلاّ كره له، بخلاف ربّ الزّرع فلا حرج عليه مطلقا لحراسة ماله، وقد نهى عن إضاعة المال. وفي حاشية الجمل من كتب الشّافعيّة: يباح ترك الصّوم لنحو حصاد، أو بناء لنفسه أو لغيره تبرّعا أو بأجرة، وإن لم ينحصر الأمر فيه وقد خاف على المال إن صام وتعذّر العمل ليلا، أو لم يكفه فيؤدّي لتلفه أو نقصه نقصا لا يتغابن بمثله. هذا هو الظّاهر من كلامهم، ويؤيّده إباحة الفطر لإنقاذ محترم، خلافا لمن أطلق في نحو الحصاد المنع، ولمن أطلق الجواز. ولو توقّف كسبه لنحو قوته المضطرّ إليه هو أو مموّنه على فطره، فظاهر أنّ له الفطر لكن بقدر الضّرورة. وفي كشّاف القناع: قال أبو بكر الآجرّيّ: من صنعته شاقّة فإن خاف بالصّوم تلفا أفطر وقضى إن ضرّه ترك الصّنعة، فإن لم يضرّه تركها أثم بالفطر ويتركها، وإن لم ينتف التّضرّر بتركها فلا إثم عليه بالفطر للعذر.
رابعا: ما يتعلّق بالزّكاة: 7 - أ - يرى الفقهاء أنّه لا زكاة في آلات العمل للمحترفين، لأنّها من الحاجات الأصليّة الّتي لا تجب فيها الزّكاة. يقول ابن عابدين: سبب وجوب الزّكاة ملك نصاب فارغ عن دين وعن حاجته الأصليّة، لأنّ المشغول بها كالمعدوم، والحاجة الأصليّة هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقا كالنّفقة، ودور السّكنى، وآلات الحرب، وكآلات الحرفة، وكتب العلم لأهلها.. هذا إذا كانت آلات الحرف لم تقتن بنيّة التّجارة وإلاّ ففيها الزّكاة كباقي عروض التّجارة وينظر تفصيل ذلك في (زكاة). ب - من المعلوم أنّ الفقير من الأصناف المستحقّة للزّكاة. ويرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، أنّ من له حرفة يكسب منها ما يكفيه فلا يعتبر فقيرا ولا يستحقّ الزّكاة. أمّا إن كان ما يكسبه من حرفته لا يكفيه فإنّه يعطى من الزّكاة تمّام كفايته، ويصدّق إن ادّعى كساد الحرفة. وإن كان يحسن حرفة ويحتاج إلى الآلة فإنّه يعطى من الزّكاة ثمن آلة حرفته وإن كثرت، وكذا إن كان يحسن تجارة فيعطى رأس مال يكفيه ربحه غالبا باعتبار عادة بلده. ويعتبر الحنفيّة أنّ الفقير الّذي يستحقّ الزّكاة من كان يملك أقلّ من نصاب، وإن كان مكتسبا، لأنّه فقير، والفقراء هم من المصارف، ولأنّ حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النّصاب. وتفصيل ذلك في (زكاة).
خامسا: الحجّ بالنّسبة لأصحاب الحرف: 8 - من شروط وجوب الحجّ الاستطاعة بالزّاد والرّاحلة، ومن لم يجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحجّ، وهذا باتّفاق الفقهاء. لكن من كان صاحب حرفة يمكنه أن يكتسب منها أثناء سفره للحجّ ما يكفيه فهل يعتبر مستطيعا ويجب عليه الحجّ ؟ ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يعتبر مستطيعا ويجب عليه الحجّ إذا كانت الحرفة لا تزري به ويكتسب منها، أثناء سفره وعودته ما يكفيه وعلم أو ظنّ عدم كسادها. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يعتبر مستطيعا ولا يجب عليه الحجّ، لأنّ الاستطاعة ملك الزّاد والرّاحلة. لكن يستحبّ أن يحجّ لأنّه يقدر على إسقاط الفرض بمشقّة لا يكره تحمّلها، فاستحبّ له إسقاط الفرض كالمسافر إذا قدر على الصّوم كما يقول الشّافعيّة. وخروجا من الخلاف كما يقول الحنابلة. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (حجّ).
سادسا: القيام بالحرف في المساجد: 9 - للمساجد حرمة لأنّها بيوت اللّه أقيمت للعبادة والذّكر والتّسبيح، ويجب صيانتها عن كلّ ما يشغل عن ذلك. لكن هل يعتبر القيام بالحرف سواء أكانت تجارة أم صناعة في المساجد منافيا لحرمتها ؟ أمّا بالنّسبة للبيع والشّراء فقد اتّفق الفقهاء على منعه. واستدلّوا جميعا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: {نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيع والاشتراء في المسجد}. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح اللّه تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد ضالّة في المسجد فقولوا: لا ردّ اللّه عليك} وقد رأى عمر رضي الله عنه رجلا (يسمّى القصير) يبيع في المسجد فقال له: يا هذا إنّ هذا سوق الآخرة فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدّنيا. واختلفوا في صفة المنع، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى الكراهة، وذهب الحنابلة إلى التّحريم. وهذا بالنّسبة لغير المعتكف. أمّا بالنّسبة للمعتكف فعند الحنفيّة والشّافعيّة يجوز له من ذلك ما يحتاج إليه لنفسه وعياله، فإن كان لتجارة كره، وقيّد الحنفيّة جواز ما يحتاج إليه من البيع والشّراء أثناء الاعتكاف بعدم إحضار السّلعة إلى المسجد وإلاّ كره، لأنّ المسجد محرز عن حقوق العباد وفيه شغله بها. ولم يفرّق المالكيّة والحنابلة بين المعتكف وغيره. 10 - أمّا بالنّسبة للقيام بالصّنعة فيه، فإنّه يكره عند الحنفيّة والمالكيّة، لكن قال المالكيّة: إنّما يمنع في المساجد من عمل الصّناعات ما يختصّ بنفعه آحاد النّاس ممّا يتكسّب به، فأمّا إن كان يشمل المسلمين في دينهم مثل إصلاح آلات الجهاد ممّا لا امتهان للمسجد في عمله فيه فلا بأس به. وقال الشّافعيّة: لا يكره للمعتكف الصّنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر، فإن أكثر منها كرهت لحرمته، إلاّ كتابة العلم ثمّ قالوا: تكره الحرفة كخياطة ونحوها في المسجد كالمعاوضة من بيع وشراء بلا حاجة وإن قلّت صيانة له. وقال الحنابلة: لا يجوز التّكسّب في المسجد بالصّنعة كخياطة وغيرها قليلا كان ذلك أو كثيرا لحاجة وغيرها، وفي المستوعب: سواء كان الصّانع يراعي المسجد بكنس أو رشّ ونحوه أم لم يكن، لأنّه بمنزلة التّجارة بالبيع والشّراء فلا يجوز أن يتّخذ المسجد مكانا للمعايش، لأنّه لم يبن لذلك. وقعود الصّنّاع والفعلة فيه ينتظرون من يكريهم بمنزلة وضع البضائع فيه ينتظرون من يشتريها، وعلى وليّ الأمر منعهم من ذلك كسائر المحرّمات، والمساجد إنّما بنيت للذّكر والتّسبيح والصّلاة فإذا فرغ من ذلك خرج إلى معاشه لقوله تعالى: {فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه}. ويجب أن يصان المسجد عن عمل صنعة لتحريمها فيه. ولا يكره اليسير من العمل في المسجد لغير التّكسّب كرقع ثوبه وخصف نعله ومثل أن ينحلّ شيء يحتاج إلى ربط فيربطه، أو أن ينشقّ قميصه فيخيطه. ويحرم فعل ذلك للتّكسّب.
سابعا: اعتبار الحرفة في النّكاح: 11 - الكفاءة في الحرفة معتبرة في النّكاح عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في رواية، وهي معتبرة في حقّ الرّجال للنّساء، لأنّ المرأة الشّريفة تعيّر بذلك، ولا تعتبر الكفاءة في حقّ المرأة للرّجل، لأنّ الولد يشرف بشرف أبيه لا أمّه فلم يعتبر ذلك في الأمّ. وقد بنى الفقهاء اعتبار الكفاءة في الحرفة على العرف وعادة أهل البلاد. هذا والمعتبر في الحرفة هو عرف بلد الزّوجة لا بلد العقد، لأنّ المدار على عارها وعدمه، وذلك إنّما يعرف بالنّسبة لعرف بلدها، أي الّتي هي بها حالة العقد. واعتبار الحرفة في الكفاءة عند القائلين بذلك إنّما هو عند ابتداء العقد ولا يضرّ زوالها بعد العقد، فلو كان الزّوج كفئا وقت العقد ثمّ زالت الكفاءة لم يفسخ العقد. لكن لو بقي أثر الحرفة لم يكن كفئا. أمّا لو كان الزّوج حال العقد غير كفء في حرفته فقد اختلف الفقهاء في بطلان النّكاح أو ثبوت الخيار وينظر تفصيل ذلك في (نكاح - كفاءة).
12 - يجوز عند الشّافعيّة والحنابلة أن يكون الانتفاع بالحرفة مهرا، فيصحّ أن يتزوّج الرّجل المرأة على عمل معلوم كخياطة ثوب معيّن، وبناء دار وتعليم صنعة وغير ذلك من كلّ ما هو مباح، ويجوز أخذ الأجرة عليه لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام: {إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج}. ولأنّ منفعة الحرّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا وعند الحنفيّة خلاف ملخّصه أنّ ما هو مال أو منفعة يمكن تسليمها يجوز التّزوّج عليها، وما لا يمكن تسليمه لا يجوز ولذلك لا يجوز أن يتزوّج الحرّ على خدمته إيّاها سنة، لأنّ موضوع الزّوجيّة أن تكون هي خادمة له لا بالعكس. لأنّ خدمة الزّوج لزوجته - كما قيل قلب للأوضاع - لأنّ المفروض أن تخدمه هي لا العكس. وأمّا إذا سمّى إيجار بيت أو غير ذلك من منافع الأعيان فإنّ هذا جائز عندهم. وأمّا ما تردّد بين أن يكون خدمة أو لا كرعي غنمها أو زراعة أرضها، فإنّ الرّوايات قد اختلفت في ذلك، كما اختلفوا فيما هو الأرجح. وقالوا: إذا تزوّج الحرّ امرأة على أن يخدمها هو سنة مثلا فهذه التّسمية عند الشّيخين فاسدة والعقد صحيح ووجب عليه إمّا مهر المثل في بعض الرّوايات، أو قيمة خدمته المدّة المنصوص عليها في عقد الزّواج. كذلك اختلف المالكيّة في جعل الصّداق خدمته لها في زرع أو في بناء دار أو تعليمها فمنعه مالك وهو المعتمد في المذهب، وكرهه ابن القاسم وأجازه أصبغ. قال اللّخميّ: وعلى قول مالك يفسخ النّكاح قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل. وقال ابن الحاجب على القول بالمنع: النّكاح صحيح قبل البناء وبعده، ويمضي بما وقع به من المنافع للاختلاف فيه. وهذا هو المشهور.
ثامنا: شهادة أهل الحرف: 13 - اتّفق الفقهاء على ردّ شهادة صاحب الحرفة المحرّمة كالمنجّم والعرّاف، وكذلك صاحب الحرفة الّتي يكثر فيها الرّبا كالصّائغ والصّيرفيّ إذا لم يتوقّيا ذلك. واختلفوا في قبول شهادة أصحاب الحرف الدّنيئة، كالحائك، والحجّام، والزّبّال. فالأصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة وهو مذهب المالكيّة وفي وجه عند الحنابلة أنّه تقبل شهادتهم، لأنّه قد تولّى هذه الحرف قوم صالحون فما لم يعلم القادح لا يبنى على ظاهر الصّناعة، فالعبرة للعدالة لا للحرفة، فكم من دنيء الصّناعة أتقى من ذي منصب ووجاهة، وقد قال اللّه تعالى: {إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم}. لكن يقول المالكيّة والشّافعيّة: إذا كان من يقوم بهذه الحرف ممّن لا تليق به، ورضيها اختيارا بأن كان من غير أهلها ولم يتوقّف قوته وقوت عياله عليها لم تقبل شهادته، لأنّ ذلك يدلّ على قلّة المبالاة وعلى خبل في عقله، وتقبل إن كان من أهلها أو اضطرّ إليها. ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والوجه الآخر عند الحنابلة أنّه لا تقبل شهادتهم، لأنّ القيام بهذه الحرف يسقط المروءة وخاصّة إذا كان في الحرفة مباشرة النّجاسة. كما أنّ شهادة الأجير الخاصّ لمستأجره لا تقبل، لأنّ المنافع بينهم متّصلة، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: {لا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزّوج لامرأته، ولا العبد لسيّده، ولا السّيّد لعبده، ولا الشّريك لشريكه، ولا الأجير لمن استأجره}. ولأنّ الأجير يستحقّ الأجرة في مدّة أداء الشّهادة، فصار كالمستأجر لأداء الشّهادة. وهذا عند الحنفيّة والحنابلة. وتقبل شهادته لمستأجره عند المالكيّة إن كان الأجير مبرّزا في العدالة ولم يكن في عيال المشهود له.
تاسعا: بيع آلة الحرفة على المفلس وإجباره على الاحتراف: 14 - من الأحكام الّتي تتعلّق بالحجر على المفلس بيع ماله لسداد ديون الغرماء. وقد اختلف الفقهاء في بيع آلة الحرفة للمحترف. فعند الشّافعيّة تباع آلة حرفته لسداد ديونه. وهو رأي المالكيّة إن كثرت قيمتها أو لم يحتج إليها. فإن كان محتاجا لها أو قلّت قيمتها فلا تباع. وقال الحنابلة: تترك له آلة حرفته ولا تباع. ولم يعثر على نصّ في ذلك عند الحنفيّة. وإذا فرّق مال المفلس على الغرماء وبقيت عليه ديون، وكانت له صنعة فهل يجبره الحاكم على التّكسّب أو إيجار نفسه ليقضي دينه ؟ ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه لا يجبر على ذلك، ولا يلزم بتجر أو عمل أو إيجار نفسه لتوفية ما بقي عليه لغرمائه من ديونهم، لأنّ الدّيون إنّما تعلّقت بذمّته لا ببدنه لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، ولما روى أبو سعيد {أنّ رجلا أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: تصدّقوا عليه فتصدّق النّاس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاّ ذلك}، ولأنّ هذا تكسّب للمال، فلا يجبره عليه الحاكم، كقبول الهبة والصّدقة. وقال اللّخميّ من المالكيّة: يجبر الصّانع - لا التّاجر - على العمل إن كان غرماؤه قد عاملوه على ذلك. والرّواية الثّانية للحنابلة أنّ الحاكم يجبره على الكسب.
عاشرا: تضمين أصحاب الحرف: 15 - اتّفق الفقهاء على أنّ صاحب الحرفة يضمن ما هلك في يده من مال، أو ما هلك بعمله إذا كان الهلاك بسبب إهمال منه أو تعدّ، وسواء أكان أجيرا خاصّا أم أجيرا مشتركا، أمّا ما هلك بغير تعدّ أو تفريط فلا ضمان عليه في الجملة. وينظر تفصيل ذلك في مصطلحي (إجارة ف 107 - 133 وضمان)
حادي عشر: التّسعير على أهل الحرف: 16 - لا يجوز التّسعير على أهل الحرف والصّنائع إلاّ إذا احتاج النّاس إلى حرفة طائفة كالفلاحة، والنّساجة، والبناء وغيرها. فإنّ وليّ الأمر يجبرهم على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التّسعير الواجب كما يقول ابن القيّم. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (تسعير ف 14).
انظر: إحراق.
1 - الحرم بفتحتين من حرم الشّيء حرما وحراما وحرم حرما وحراما أي امتنع فعله. ومنه الحرام بمعنى الممنوع. والحرمة ما لا يحلّ انتهاكه. والحرمة أيضا المهابة، وهي اسم بمعنى الاحترام، مثل الفرقة والافتراق، والجمع حرمات. وفي الاصطلاح يطلق الحرم على أمور: أ - مكّة وما حولها، وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق كلمة الحرم يقول الماورديّ: (أمّا الحرم فمكّة وما طاف بها من جوانبها إلى أنصاب الحرم) وعلى ذلك فمكّة جزء من الحرم. قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف النّاس من حولهم} هي مكّة، وهم قريش. أمّنهم اللّه تعالى فيها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: {إنّ اللّه حرّم مكّة فلا تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي}. وجه تسمية الحرم هو أنّ اللّه سبحانه وتعالى حرّم فيه كثيرا ممّا ليس بمحرّم في غيره، كالصّيد وقطع النّبات ونحوهما. ب - المدينة وما حولها، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: {المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}. وسيأتي بيان حدوده.
أ - (دليل تحريمه): 2 - صرّح الفقهاء بأنّ مكّة وما حولها أي الحرم المكّيّ حرام بتحريم اللّه تعالى إيّاه. وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث منها: قوله تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف النّاس من حولهم} قال القرطبيّ: أي جعلت لهم حرما آمنا أمنوا فيه من السّبي والغارة والقتل. ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: {إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّماوات والأرض} وقوله صلى الله عليه وسلم: {إنّ اللّه حرّم مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار}. وذكر الزّركشيّ في حكمته وجوها منها: التزام ما ثبت له من أحكام، وتبيين ما اختصّ به من البركات. ب - تحديد حرم مكّة: 3 - حدّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة عند التّنعيم وهو على ثلاثة أميال. وفي كتب المالكيّة أنّه أربعة أو خمسة أميال. ومبدأ التّنعيم من جهة مكّة عند بيوت السّقيا، ويقال لها بيوت نفار، ويعرف الآن بمسجد عائشة، فما بين الكعبة المشرّفة والتّنعيم حرم. والتّنعيم من الحلّ. ومن جهة اليمن سبعة أميال عند أضاة لبن (بكسر فسكون كما في القاموس وشفاء الغرام) ومن جهة جدّة عشرة أميال عند منقطع الأعشاش لآخر الحديبية، فهي من الحرم. ومن جهة الجعرانة تسعة أميال في شعب عبد اللّه بن خالد. ومن جهة العراق سبعة أميال على ثنيّة بطرف جبل المقطّع، وذكر في كتب المالكيّة أنّه ثمانية أميال. ومن جهة الطّائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال عند طرف عرنة. ولعلّ الاختلاف في تحديد الأميال يرجع إلى الاختلاف في تحديد أذرع الميل وأنواعها. وابتداء الأميال من الحجر الأسود. هذا وقد حدّد الحرم المكّيّ الآن من مختلف الجهات بأعلام بيّنة مبيّنة على أطرافه مثل المنار مكتوب عليها اسم العلم باللّغات العربيّة والأعجميّة. وانظر مصطلح (أعلام الحرم).
أ - الدّخول بقصد الحجّ أو العمرة: 4 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أراد دخول الحرم بقصد الحجّ أو العمرة فعليه أن يحرم من المواقيت المحدّدة أو قبلها. ومن جاوز الميقات بغير إحرام فعليه أن يعود إليه ويحرم منه. فإن لم يرجع فعليه دم سواء أترك العود بعذر أم بغير عذر، عامدا كان أم ناسيا. إلاّ أنّه إذا خاف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت أو المرض الشّاقّ فيحرم من مكانه وعليه الدّم. وتفصيله في مصطلح: (إحرام). ب - الدّخول لأغراض أخرى: 5 - يجوز لمن كان داخل المواقيت (بين الميقات والحرم) أن يدخل الحرم بغير إحرام لحاجته، لأنّه يتكرّر دخوله لحوائجه فيحرج في ذلك، والحرج مرفوع، فصار كالمكّيّ إذا خرج ثمّ دخل، بخلاف ما إذا دخل للحجّ لأنّه لا يتكرّر، فإنّه لا يكون في السّنة إلاّ مرّة. وكذا لأداء العمرة لأنّه التزمها لنفسه. كما يجوز لمن يخرج من الحرم إلى الحلّ (داخل المواقيت) أن يدخل الحرم بغير إحرام، ولو لم يكن من أهل الحرم، كالآفاقيّ المفرد بالعمرة، والمتمتّع، وهذا باتّفاق الفقهاء. كذلك يجوز دخول الحرم لقتال مباح أو خوف من ظالم أو لحاجة متكرّرة كالحطّابين والصّيّادين ونحوهما بغير إحرام، {لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكّة يوم الفتح بغير إحرام}، وفي وجوب الإحرام على من تتكرّر حاجته مشقّة. 6 - أمّا الآفاقيّ ومن في حكمه - غير من تقدّم ذكره - ممّن يمرّون على المواقيت إذا أرادوا دخول الحرم لحاجة أخرى غير النّسك فجمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة) يرون وجوب الإحرام عليهم بأحد النّسكين، ولا يجوز لهم مجاوزة الميقات بغير إحرام. وفي قول آخر للشّافعيّة وهو المشهور عندهم: أنّه يجوز دخول الحرم للآفاقيّ أيضا بغير إحرام لكنّه يستحبّ له أن يحرم. وهذا في الجملة، وتفصيله كالتّالي: قال الحنفيّة: الآفاقيّ إذا أراد دخول الحرم بغير النّسك كمجرّد الرّؤية أو النّزهة أو التّجارة لا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلاّ محرما، لأنّ فائدة التّأقيت هذا، لأنّه يجوز تقديم الإحرام على المواقيت. لما روي أنّ النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال: {لا تجاوز الموقّت إلاّ بإحرام} فإن جاوزها الآفاقيّ بغير إحرام فعليه شاة. فإن عاد فأحرم منه سقط الدّم. أمّا لو قصد موضعا من الحلّ، كخليص وجدّة حلّ له مجاوزته بلا إحرام. فإذا حلّ به التحق بأهله فله دخول الحرم بلا إحرام. قالوا: وهو الحيلة لمريد ذلك بقصد أولى، كما إذا كان قصده لجدّة مثلا لبيع أو شراء، وإذا فرغ منه يدخل مكّة ثانيا، إذ لو كان قصده الأوّليّ دخول مكّة ومن ضرورته أن يمرّ بالحلّ فلا يحلّ له تجاوز الميقات بدون إحرام. وقال المالكيّة: إنّ كلّ مكلّف حرّ أراد دخول مكّة فلا يدخلها إلاّ بإحرام بأحد النّسكين وجوبا، ولا يجوز له تعدّي الميقات بلا إحرام، إلاّ أن يكون من المتردّدين أو يعود إلى مكّة بعد خروجه منها من مكان قريب (أي دون مسافة القصر) لم يمكث فيه كثيرا فلا يجب عليه، وكذلك لا يجب على غير المكلّف كصبيّ ومجنون. وقال الحنابلة: لا يجوز لمن أراد دخول مكّة أو الحرم أو أراد نسكا تجاوز الميقات.. إلاّ لقتال مباح لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة وعلى رأسه المغفر. أو لخوف، أو حاجة متكرّرة كحطّاب، وناقل الميرة، ولصيد، واحتشاش، ونحو ذلك، ومكّيّ يتردّد إلى قريته بالحلّ. وقال الشّافعيّة - كما نصّ عليه النّوويّ -: إنّ من أراد دخول مكّة لحاجة لا تتكرّر كزيارة، أو تجارة، أو رسالة، أو كان مكّيّا عائدا من سفره يستحبّ له أن يحرم. وفي قول: يجب عليه الإحرام. وعلى كلّ فقد نصّوا أنّه لو جاوز الميقات بغير إحرام ثمّ أراد النّسك فميقاته موضعه ولا يكلّف العود إلى الميقات.
7 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز لغير المسلم السّكنى والإقامة في الحرم لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} والمراد بالمسجد الحرام الحرم بدليل قوله سبحانه وتعالى بعده: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله} أي إن خفتم فقرا وضررا بمنعهم من الحرم وانقطاع ما كان يحصل لكم بما يجلبونه إليكم من المكاسب فسوف يغنيكم اللّه من فضله. ومعلوم أنّ الجلب إنّما يجلب إلى البلد والحرم، لا إلى المسجد نفسه. والمعنى في ذلك أنّهم أخرجوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه، فعوقبوا بالمنع من دخوله بكلّ حال. صلى الله عليه وسلم واختلفوا في اجتياز الكافر الحرم بصفة مؤقّتة، فذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو قول عند المالكيّة: إلى منع دخول الكفّار إلى الحرم مطلقا، لعموم الآية. فإن أراد كافر الدّخول إلى الحرم منع منه. فإن كانت معه ميرة أو تجارة خرج إليه من يشتري منه ولم يترك هو يدخل. وإن كان رسولا إلى إمام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته ويبلّغها إيّاه. فإن قال: لا بدّ لي من لقاء الإمام وكانت المصلحة في ذلك خرج إليه الإمام، ولم يأذن له بالدّخول. وإذا أراد مشرك دخول الحرم ليسلم فيه منع منه حتّى يسلم قبله. قال الشّافعيّة والحنابلة: وإذا دخل المشرك الحرم بغير إذن عزّر ولم يستبح به قتله، وإن دخله بإذن لم يعزّر وينكر على من أذن له. وقال الحنفيّة: لا يمنع الذّمّيّ من دخول الحرم، ولا يتوقّف جواز دخوله على إذن مسلم ولو كان المسجد الحرام. يقول الجصّاص في تفسير قوله تعالى: {إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام}: يجوز للذّمّيّ دخول سائر المساجد، وإنّما معنى الآية على أحد الوجهين: إمّا أن يكون النّهي خاصّا في المشركين الّذين كانوا ممنوعين من دخول مكّة وسائر المساجد، لأنّهم لم تكن لهم ذمّة، وكان لا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف وهم مشركو العرب. أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكّة للحجّ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} الآية، وإنّما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحجّ، لأنّهم كانوا ينتفعون بالتّجارات الّتي كانت في مواسم الحجّ.
8 - تقدّم أنّ الكافر لا يجوز له الدّخول إلى الحرم عند الجمهور. فلو دخل مستورا ومرض أخرج إلى الحلّ. وإذا مات في الحرم حرم دفنه فيه، فإن دفن نبش قبره ونقل إلى الحلّ، إلاّ أن يكون قد بلي فيترك كما ترك أموات الجاهليّة.
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من دخل الحرم مقاتلا وبدأ القتال فيه، يقاتل، لقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}. وكذلك من ارتكب في الحرم جريمة من جرائم الحدود أو القصاص ممّا يوجب القتل فإنّه يقتل فيه اتّفاقا لاستخفافه بالحرم، كما سيأتي في الفقرة التّالية. واختلفوا في قتال الكفّار والبغاة على أهل العدل في الحرم إذا لم يبدءوا بالقتال. فذهب طاووس والحنفيّة، وهو قول ابن شاس وابن الحاجب من المالكيّة، وصحّحه القرطبيّ، وقول القفّال والماورديّ من الشّافعيّة، وبعض الحنابلة إلى أنّه يحرم قتالهم في الحرم مع بغيهم. ولكنّهم لا يطعمون ولا يسقون ولا يؤوون ولا يبايعون حتّى يخرجوا من الحرم، لقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه} قال مجاهد: الآية محكمة، فلا يجوز قتال أحد إلاّ بعد أن يقاتل. لقوله تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا}. ولقوله صلى الله عليه وسلم: {إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار}. وقال الشّافعيّة في المشهور عندهم وصوّبه النّوويّ: إنّه إذا التجأ إلى الحرم طائفة من الكفّار والعياذ باللّه، أو طائفة من البغاة، أو قطّاع الطّريق يجوز قتالهم في الحرم فقد ورد عن أبي شريح العدويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: {إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخّص لقتال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إنّ اللّه أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس}. وهذا قول سند وابن عبد البرّ من المالكيّة، وصوّبه ابن هارون في الحاصر من الحجّ، وحكى الحطّاب عن مالك جواز قتال أهل مكّة إذا بغوا على أهل العدل، قال: وهو قول عكرمة وعطاء. وهذا قول للحنابلة أيضا، فقد جاء في تحفة الرّاكع والسّاجد: فإن بغوا على أهل العدل قاتلهم على بغيهم إذا لم يمكن ردّهم عن البغي إلاّ بالقتال. واستدلّ من أجاز القتال في الحرم بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقالوا: إنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام}. وقالوا أيضا: {إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكّة وعليه المغفر، فقيل: إنّ ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه}. وأجابوا عن الأحاديث الواردة في تحريم القتال بمكّة أنّ معناها تحريم نصب القتال عليهم بما يعمّ كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك. ولأنّ قتال أهل البغي من حقوق اللّه تعالى الّتي لا يجوز أن تضاع، ولأن تكون محفوظة في حرمه أولى من أن تكون مضاعة فيه.
ج - قطع نبات الحرم: 10 - واتّفق الفقهاء على تحريم قطع أو قلع نبات الحرم إذا كان ممّا لا يستنبته النّاس عادة وهو رطب، كالطّرفاء، والسّلم، والبقل، البرّيّ، ونحوها، سواء أكان شجرا أم غيره، والأصل فيه قوله تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا}. ولما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {حرّم اللّه مكّة} إلى قوله: {لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها}. ويستوي في الحرمة المحرّم وغيره، لأنّه لا تفصيل في النّصوص المقتضية للأمن. ولأنّ حرمة التّعرّض لأجل الحرم، فيستوي فيه المحرّم وغيره باتّفاق الفقهاء. واستثني من ذلك الإذخر، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قال في الحديث السّابق: {لا يعضد شجرها قال العبّاس رضي الله عنه إلاّ الإذخر يا رسول اللّه فإنّه متاع لأهل مكّة لحيّهم وميّتهم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إلاّ الإذخر}. والمعنى فيه ما أشار إليه العبّاس رضي الله عنه وهو حاجة أهل مكّة إلى ذلك في حياتهم ومماتهم. وألحق بعض الفقهاء (المالكيّة) بالإذخر السّنّا والسّواك والعصا وما أزيل من النّبات بقصد السّكنى بموضعه للضّرورة. كما ألحق به جمهور الشّافعيّة والقاضي وأبو الخطّاب من الحنابلة الشّوك كالعوسج وغيره من كلّ ما هو مؤذ. وأطلق غيرهم القول بالحرمة ليشمل سائر الأشجار والحشيش إلاّ ما ورد النّصّ باستثنائه وهو الإذخر، وذلك لما جاء في حديث أبي هريرة: {ولا يختلى شوكها} أي مكّة. ولأنّ الغالب في شجر الحرم الشّوك، فلمّا حرّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع شجره والشّوك غالبه كان ظاهرا في تحريمه. ولا بأس بأخذ الكمأة (الفقع) لأنّهما لا أصل لهما فليسا بشجر ولا حشيش. أمّا اليابس من شجر الحرم وحشيشه فلا يحرم الانتفاع به عند جمهور الفقهاء (الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة)، لأنّه بمنزلة الميّت لخروجه عن حدّ النّموّ. وقال المالكيّة: لا فرق بين أخضره ويابسه. ويجوز قطع وقلع ما يستنبته النّاس عادة كخسّ، وبقل، وكرّات، وحنطة، وبطّيخ، وقثّاء ونخل وعنب، وإن لم يعالج بأن نبت بنفسه، اعتبارا بأصله، فإنّ النّاس من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزرعونه في الحرم ويحصدونه من غير نكير من أحد. ولا فرق في الجواز بين الشّجر وغيره عند جمهور الفقهاء. والمذهب عند الشّافعيّة أنّ ما استنبته الآدميّ من الشّجر كغير المستنبت في الحرمة والضّمان، لعموم الحديث المانع من قطع الشّجر. والقول الثّاني عندهم: قياسه بالزّرع كالحنطة والشّعير والخضراوات، فإنّه يجوز قطعه ولا ضمان فيه بلا خلاف. وإذا كان أصل الشّجرة في الحرم وأغصانها في الحلّ فهي من شجر الحرم، وإن كان أصلها في الحلّ وأغصانها في الحرم فهي من الحلّ اعتبارا للأصل.
11 - يجوز رعي حشيش الحرم عند جمهور الفقهاء (المالكيّة والشّافعيّة، وهو وجه عند الحنابلة، وقول أبي يوسف من الحنفيّة) لأنّ الهدي كان يدخل إلى الحرم فيكثر فيه فلم ينقل أنّهم كانوا يكمّون أفواهه، ولأنّ بهم حاجة إلى ذلك أشبه الإذخر. ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة ومحمّد، وفي رواية عند الحنابلة، لأنّه لمّا منع من التّعرّض لحشيش الحرم استوى فيه التّعرّض بنفسه وبإرسال البهيمة عليه، لأنّ فعل البهيمة يضاف إلى صاحبها، كما في الصّيد فإنّه لمّا حرم عليه التّعرّض استوى فيه اصطياده بنفسه، وبإرسال الكلب، كذا هذا. أمّا الاحتشاش أي قطع نبات الحرم للبهائم فمنعه الجمهور (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو رواية عند الشّافعيّة) لقوله صلى الله عليه وسلم {لا يختلى خلاها} وفي الأصحّ عند الشّافعيّة حلّ أخذ نباته من حشيش أو نحوه بالقطع لا بالقلع لعلف البهائم للحاجة إليه كالإذخر. والخلاف فيما لا يستنبته النّاس عادة: أمّا ما يستنبته النّاس عادة فيجوز فيه الاحتشاش اتّفاقا.
12 - ذهب جمهور الفقهاء (الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة) إلى أنّ من قطع ما يحرم من نبات الحرم فعليه ضمانه محرما كان أو حلالا. واستدلّوا بفعل عمر، وعبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنهما فقد أمر عمر بشجر كان في المسجد يضمر بأهل الطّواف فقطع وفداه. ويقول ابن عبّاس: في الدّوحة بقرة، وفي الجزلة شاة. والدّوحة الشّجرة العظيمة، والجزلة الصّغيرة. ثمّ اختلفوا في نوع الضّمان: فقال الشّافعيّة والحنابلة: تضمن الشّجرة الكبيرة والمتوسّطة عرفا ببقرة، والصّغيرة بشاة، لما تقدّم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. ويضمن الغصن بما نقص. وإن قلع شجرا من الحرم فغرسه في الحلّ لزمه ردّه، فإن تعذّر أو يبست وجب الضّمان. وقال الحنفيّة: الضّمان في جميع الصّور بالقيمة. واتّفق الجمهور على أنّه لا يكون للصّوم في جزاء قطع نبات الحرم مدخل، لأنّ حرمته بسبب الحرم لا بالإحرام، ولهذا يجب على المحرم والحلال على السّواء. أمّا المالكيّة فمع قولهم بحرمة قطع نبات الحرم الّذي يحرم قطعه. قالوا: إن فعل فليستغفر اللّه، ولا جزاء عليه.
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم في الحرم صيد الحيوان البرّيّ، وهو ما يكون توالده وتناسله في البرّ دون البحريّ وهو ما يكون توالده في البحر. والمراد بصيد الحيوان البرّيّ أن يكون الحيوان متوحّشا في أصل الخلقة، ولو صار مستأنسا، نحو الظّبي المستأنس. ويستوي عند الحنفيّة والمالكيّة أن يكون مأكول اللّحم أو غير مأكول اللّحم. وقيّده الشّافعيّة والحنابلة بأن يكون مأكول اللّحم، فلا يحرم صيد الحيوان البرّيّ غير مأكول اللّحم عندهم. ودليل حرمة صيد الحرم قوله صلى الله عليه وسلم: {إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّموات والأرض} إلى قوله: {لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفّر صيدها}. وحرمة صيد الحرم تشمل المحرم والحلال، كما تشمل الحرمة إيذاء الصّيد أو الاستيلاء عليه وتنفيره أو المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه، مثل الدّلالة عليه، أو الإشارة إليه أو الأمر بقتله. ومن ملك صيدا في الحلّ فأراد أن يدخل به الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لأنّ الحرم سبب محرّم للصّيد ويوجب ضمانه، فحرم استدامة إمساكه كالإحرام، فإن لم يرسله وتلف فعليه ضمانه، فإن باعه ردّ البيع إن بقي، وإن فات فعليه الجزاء. وقال الشّافعيّة: لو أدخل الحلال معه إلى الحرم صيدا مملوكا له لا يضمنه، بل له إمساكه فيه والتّصرّف فيه كيف شاء، لأنّه صيد حلّ. ولو رمى من الحلّ صيدا في الحرم ضمنه عند جمهور الفقهاء، لأنّه صيد الحرم. وكذا لو رمى من الحرم صيدا في الحلّ عند الجمهور، لأنّ بداية الرّمي من الحرم. وقال أشهب من المالكيّة وهو رواية عند الحنابلة: لا يضمن نظرا لانتهاء الرّمية. وضمان الصّيد يكون بالمثل فيما له مثل من النّعم، أو القيمة فيه، وفيما لا مثل له بتقويم رجلين عدلين يتصدّق بها على المساكين على النّحو المبيّن في جزاء الإحرام. ينظر في مصطلح (إحرام: ف 160 - 164). وفي الزّيلعيّ ولا يجزيه الصّوم لأنّه غرامة كغرامة الأموال وشجر الحرم. والجامع أنّهما ضمان المحلّ لا جزاء الفعل. 14 - ولا يجوز للمحرم ولا للحلال أكل لحم صيد الحرم البرّيّ، ولا الانتفاع به بأيّ وجه من الوجوه. أمّا صيد البحر فحلال أكله للمحرم والحلال لقوله تعالى: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسّيّارة، وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما}. أمّا إذا صاد الحلال صيدا خارج الحرم فهل يحلّ للمحرم أكله أم لا ؟ فيه خلاف وتفصيل سبق في مصطلح: (إحرام) وتفصيل أحكام الصّيد في مصطلح: (صيد).
15 - اتّفق الفقهاء على جواز قتل الغراب والحدأة، والعقرب، والحيّة، والفأرة، والكلب العقور، والذّئب في الحلّ والحرم، لما ورد في الحديث المتّفق عليه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور} وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: {خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الحيّة، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديّا}. والغراب الأبقع هو الّذي يأكل الجيف، فلا يجوز صيد الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ. وفي قول عند المالكيّة: لا يجوز قتل الحدأة الصّغيرة أيضا لانتفاء الإيذاء منها. وأجاز جمهور الفقهاء (المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة) قتل كلّ مؤذ بطبعه كالأسد والنّمر والفهد وسائر السّباع، خلافا للحنفيّة في السّباع غير الصّائلة ونحوها كالبازي والصّقر. كما أجاز الجمهور قتل سائر الهوامّ والحشرات. واستثنى المالكيّة من الجواز قتل ما لا يكون مؤذيا منها. وقد سبق تفصيله في مصطلح (إحرام).
16 - صرّح الشّافعيّة بحرمة نقل تراب الحرم وأحجاره وما عمل من طينه - كالأباريق وغيرها - إلى الحلّ، فيجب ردّه إلى الحرم، ونقل عن بعض الشّافعيّة كراهته. قال الزّركشيّ في إعلام السّاجد: يحرم نقل تراب الحرم وأحجاره عنه إلى جميع البلدان، وهذا هو الأصحّ والّذي أورده الرّافعيّ كراهته. وعند الحنفيّة أنّه لا بأس بإخراج أحجار الحرم وترابه، نقله الشّافعيّ في الأمّ، وهو المنقول عن عمر وابن عبّاس، لكنّهما كرهاه. وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يخرج من تراب الحرم، ولا يدخل إليه من الحلّ، ولا يخرج من حجارة مكّة إلى الحلّ، والإخراج أشدّ في الكراهة. أمّا نقل تراب الحلّ إلى الحرم فجوّزه الفقهاء، لكنّه قال بعضهم: مكروه. وقال بعضهم: خلاف الأولى، لئلاّ يحدث لها حرمة لم تكن. ولا خلاف في جواز نقل ماء زمزم إلى الحلّ لأنّه يستخلف، فهو كالثّمرة. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تحمل ماء زمزم وتخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحمله. ولم نعثر في كتب الحنفيّة والمالكيّة على نصّ في الموضوع.
17 - يرى الحنفيّة وهو المشهور عن مالك ورواية عن أحمد، أنّه لا يجوز بيع رباع الحرم وبقاع المناسك ولا كراؤها، لحديث: {مكّة حرام وحرام بيع رباعها وحرام أجر بيوتها} وروي عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة قال: {توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ودور مكّة كانت تدعى السّوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن}. قال في البدائع: ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: {إنّ مكّة حرام} وهي اسم للبقعة، والحرام لا يكون محلّا للتّمليك. وعلّل البهوتيّ التّحريم بأنّ مكّة فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين فصارت وقفا على المسلمين. وقال الشّافعيّة، وهو رواية عن مالك وأحمد وهو غير المشهور، عن أبي حنيفة إنّه يجوز بيع وإجارة دور الحرم، لأنّها على ملك أربابها، يجوز لهم التّصرّف فيها ببيع، ورهن، وإجارة. قال اللّه تعالى: {للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم} فنسب الدّيار إلى المالكين. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: {من دخل دار أبي سفيان فهو آمن} نسب الدّار إلى مالكها. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور». واستدلّوا للجواز أيضا بعموم النّصوص الواردة في جواز البيع من غير فصل. ولأنّ الأصل في الأراضي أن تكون محلّا للتّمليك، إلاّ أنّه امتنع تملّك بعضها شرعا لعارض الوقف كالمساجد، ولم يوجد في الحرم. وقال بعض الفقهاء: بالجواز مع الكراهة. وقيّد بعض الفقهاء، منهم أبو حنيفة ومحمّد وهو رواية عن مالك - كراهة إجارة بيوت مكّة بالموسم من الحاجّ والمعتمر، لكثرة احتياج النّاس إليها - أمّا من المقيم والمجاور فلا بأس بها. هذا، وقد بحث الزّركشيّ هذا الموضوع مع اتّجاهات الفقهاء وأدلّتهم بإسهاب. وينظر تفصيله أيضا في مصطلح: (رباع).
أ - نذر المشي إلى الحرم والصّلاة فيه: 18 - جمهور الفقهاء على أنّه لو نذر المشي إلى بيت اللّه أو إتيانه ولم ينو شيئا آخر ولم يعيّنه فعليه أحد النّسكين: (الحجّ أو العمرة) لأنّه قد تعورف إيجاب النّسك بهذا اللّفظ فكان كقوله: عليّ أحد النّسكين. ولما ورد من حديث {أخت عقبة أنّها نذرت أن تمشي إلى بيت اللّه فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تمشي وتركب}. وكذا إذا نذر المشي إلى مكّة أو إلى الكعبة فهو كقوله إلى بيت اللّه. أمّا إذا نذر الإتيان أو المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام أو غير ذلك، أو نوى ببيت اللّه مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، أو سائر المساجد فاختلفت عبارات الفقهاء: قال الحنفيّة: لو قال: عليّ المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام لا شيء عليه عند أبي حنيفة لعدم العرف في التزام النّسك به. وقال الصّاحبان: يلزمه النّسك أخذا بالاحتياط لأنّه لا يتوصّل إلى الحرم ولا المسجد الحرام إلاّ بالإحرام فكان بذلك ملتزما للإحرام، ولو نوى بقوله (بيت اللّه) مسجد المدينة المنوّرة أو بيت المقدس أو مسجدا غيرهما لم يلزمه شيء، لأنّ النّذر إنّما يجب وفاؤه - عند الحنفيّة - إذا كان من جنسه واجب، إذ المساجد كلّها بيوت اللّه، وسائر المساجد يجوز الدّخول فيها بلا إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام. وذهب المالكيّة إلى أنّه لو نذر المشي إلى مسجد مكّة ولو لصلاة يلزمه، كما يلزم ناذر المشي إلى مكّة أو البيت الحرام أو جزئه المتّصل به كبابه، وركنه، وملتزمه، وشاذروانه وحجره. ولا يلزم المشي لغير ذلك، سواء أكان في المسجد الحرام والحرم، كزمزم والمقام، والصّفا والمروة، أو خارجا عن الحرم كعرفة. وقال الشّافعيّة: إذا نذر المشي إلى بيت اللّه أو إتيانه وقصد البيت الحرام، أو صرّح بلفظ الحرام، فالمذهب وجوب إتيانه بحجّ أو عمرة. أمّا إذا لم يقل البيت الحرام ولا نواه، أو نذر أن يأتي عرفات ولم ينو الحجّ لم ينعقد نذره، لأنّ بيت اللّه تعالى يصدق على بيته الحرام وعلى سائر المساجد، ولم يقيّده بلفظ ولا نيّة. ولو نذر إتيان مكان من الحرم كالصّفا أو المروة، أو مسجد الخيف، أو منى، أو مزدلفة، لزمه إتيان الحرم بحجّ أو عمرة، لأنّ القربة إنّما تتمّ في إتيان بنسكه، والنّذر محمول على الواجب. وحرمة الحرم شاملة لجميع ما ذكر من الأمكنة ونحوها في تنفير الصّيد وغيره. وتفصيل المسألة في مصطلح ; (نذر) وانظر أيضا مصطلح: (المسجد الحرام).
ب - لقطة الحرم: 19 - اللّقطة هي المال الضّائع من ربّه يلتقطه غيره. ولا فرق عند جمهور الفقهاء بين لقطة الحرم والحلّ في الأحكام الفقهيّة من أنّ أخذها من غير نيّة التّملّك مأذون فيه شرعا، وصرّح بعضهم بوجوب الأخذ إذا خاف الضّياع، وهي أمانة في يد الآخذ (الملتقط) ويشهد على أخذها، لقوله صلى الله عليه وسلم: {من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم، ولا يغيّب، فإن وجد صاحبها فليردّها عليه، وإلاّ فهو مال اللّه عزّ وجلّ يؤتيه من يشاء}. ويجب تعريف اللّقطة إلى سنة أو إلى أن يغلب على ظنّه أنّ صاحبها لا يطلبها. وتختلف بعض أحكامها على حسب اختلاف نوعيّة اللّقطة وقيمتها، وهل يملكها بعد التّعريف أو يتصدّق بها أو يحبسها في ذلك خلاف وتفصيل، ينظر في مصطلح: (لقطة). وفي الصّحيح عند الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد وقول الباجيّ وابن رشد وابن العربيّ من المالكيّة: إنّه لا تحلّ لقطة الحرم للتّملّك بل تؤخذ للحفظ ويجب تعريفها أبدا، لحديث: {فإنّ هذا بلد حرّم اللّه، لا يلتقط لقطته إلاّ من عرّفها} ففرّق بينها وبين لقطة غير الحرم، وأخبر أنّها لا تحلّ إلاّ للتّعريف، ولم يوقّت التّعريف بسنة كغيرها. فدلّ على أنّه أراد التّعريف على الدّوام. والمعنى فيه أنّ حرم مكّة شرّفها اللّه تعالى مثابة للنّاس يعودون إليه المرّة بعد الأخرى، فربّما يعود مالكها أو يبعث في طلبها بعد السّنة.
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسنّ الغسل لدخول الحرم، وذلك تعظيما لحرمته، قال الزّركشيّ: ويستحبّ الغسل لدخول مكّة اتّفاقا لما في الصّحيحين عن {ابن عمر أنّه كان لا يقدم مكّة إلاّ بات بذي طوى حتّى يصبح ويغتسل ثمّ يدخل مكّة نهارا، ويذكر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه فعله}. ولا فرق بين أن يكون الدّاخل محرما أو حلالا.
21 - من اختصاصات الحرم أنّ الإنسان إذا همّ بسيّئة فيه يؤاخذ به وإن لم يفعلها، بخلاف سائر البلدان فإنّه إذا همّ الإنسان فيها بسيّئة لا يؤاخذ بهمّه ما لم يفعلها. ووجه المؤاخذة بالهمّ في الحرم قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وروى أحمد من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه في الآية قال: (لو أنّ رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه اللّه عذابا أليما) وذلك تعظيما لحرمة الحرم - وكذلك فعل اللّه بأصحاب الفيل.
22 - تستحبّ المجاورة بمكّة والحرم عند جمهور الفقهاء (الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد وهو قول ابن القاسم من المالكيّة) وذلك لما يحصل من الطّاعات الّتي لا تحصل في غيرها من الطّواف وتضعيف الصّلوات والحسنات. وحكي عن بعض الفقهاء منهم أبو حنيفة كراهة المجاورة بالحرم خوفا من التّقصير في حرمته والتّبرّم واعتياد المكان. ولما يحصل بالمفارقة من تهييج الشّوق وانبعاث داعية العود. قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا} أي يثوبون إليه، ويتردّدون إليه مرّة بعد أخرى. وعلّل بعضهم الكراهة بالخوف من ركوب الخطايا والذّنوب فيه.
23 - اتّفق الفقهاء على أنّ صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، لما ورد فيها من أحاديث: منها قوله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام} والمعنى أنّ الصّلاة فيه تفضل على مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم. وذكر بعض الفقهاء أنّ حرم مكّة كالمسجد الحرام في المضاعفة المذكورة بناء على أنّ المسجد الحرام في الخبر المراد به جميع الحرم، ويتأيّد بقوله تعالى: {والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواء العاكف فيه والبّاد} وقوله تعالى: {سبحان الّذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، وكان ذلك من بيت أمّ هانئ. وقيل: المراد به مسجد الجماعة الّذي يحرم على الجنب الإقامة فيه. وقد ذكر في رواية النّسائيّ في سننه من حديث ميمونة: {إلاّ المسجد الكعبة} ورواه مسلم عنها: {إلاّ مسجد الكعبة}. ورجّح المحبّ الطّبريّ أنّ المضاعفة تختصّ بمسجد الجماعة بالنّسبة إلى الصّلاة. هذا وقد ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {من حجّ من مكّة ماشيا حتّى يرجع إلى مكّة كتب اللّه له بكلّ خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم} فقال بعضهم لابن عبّاس: وما حسنات الحرم ؟ قال: بكلّ حسنة مائة ألف حسنة، وهذا الحديث يدلّ على أنّ المراد بالمسجد الحرام في تضعيف الصّلاة الحرم جميعه، قال الزّركشيّ نقلا عن المحبّ الطّبريّ: نقول بموجبه إنّ حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف لكنّ الصّلاة في مسجد الجماعة تزيد على ذلك. ولهذا قال: بمائة صلاة في مسجدي ولم يقل حسنة. وصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، كلّ صلاة بعشر حسنات، فتكون الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف حسنة، وتكون في المسجد الحرام بألف ألف حسنة إمّا مسجد الجماعة وإمّا الكعبة على اختلاف القولين. ومثله ما ورد في شفاء الغرام. وتفصيل الموضوع في مصطلح: المسجد الحرام "
24 - ذهب جماعة من العلماء إلى أنّ السّيّئات تضاعف بمكّة كما تضاعف الحسنات. ممّن قال ذلك ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وأحمد بن حنبل وغيرهم لتعظيم البلد. وسئل ابن عبّاس عن مقامه بغير مكّة فقال: مالي ولبلد تضاعف فيه السّيّئات كما تضاعف الحسنات ؟ فحمل ذلك منه على مضاعفة السّيّئات بالحرم، ثمّ قيل: تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم. وقيل: بل كخارجه، ومن أخذ بالعمومات لم يحكم بالمضاعفة قال تعالى: {ومن جاء بالسّيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها}. وقال الفاسيّ: والصّحيح من مذاهب العلماء أنّ السّيّئة بمكّة كغيرها.
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تمتّع ولا قران على أهل مكّة، فالمكّيّ يحرم بالحجّ مفردا فقط ولا دم عليه. لقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. وهل يجوز لأهل الحرم أن يحرم بالتّمتّع أو القران أو لا يجوز ؟ خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحي: (تمتّع وقران).
26 - الهدي هو ما يهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام، سواء أكان تطوّعا أم هدي تمتّع، أم قران أم جزاء صيد. وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ ذبحه يختصّ بالحرم لقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} وقوله: {ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه} وقوله: {ثمّ محلّها إلى البيت العتيق}. ويجوز الذّبح في أيّ موضع شاء من الحرم ولا يختصّ بمنى {لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: نحرت هاهنا ومنى كلّها منحر وكلّ فجاج مكّة طريق ومنحر} والأفضل للحاجّ أن يذبح بمنى، وللمعتمر أن يذبح بمكّة. وهذا في غير المحصر، أمّا المحصر ففي ذبحه خارج الحرم أو داخله خلاف ينظر في (إحصار). وأمّا ما يذبح في فدية الأذى فقد اختلف فيه الفقهاء، ففي قول الحنفيّة والمالكيّة: يجب ذبحه بمكّة وهو الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد. وحكم الطّعام كحكم الفدية في أنّه يوزّع على مساكين الحرم. وأمّا الصّيام فيجوز فعله في الحرم وخارجه. وللتّفصيل انظر (فدية) (وصيام). وفي بيان أنواع الهدي ووقت ذبحه، ومن يتصدّق عليهم بالهدي تفصيل وخلاف ينظر في مصطلحات: (حجّ، هدي، فدية، نذر)، ويراجع أيضا مصطلح: (إحصار ف 38، 39).
27 - يرى بعض الفقهاء تغليظ الدّية على الجناية الّتي ترتكب في الحرم، فقد قضى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيمن قتل في الحرم بالدّية وثلث الدّية. وقال بعضهم لا تغلّظ الدّية في الحرم. وفي كيفيّة تغليظها خلاف، تفصيله في مصطلح: (دية). هذا، وهناك أحكام أخرى بعضها يختصّ بالمسجد الحرام، كجواز قصده بالزّيارة وشدّ الرّحال إليه، وتقدّم الإمام على المأموم، وعدم كراهة الصّلاة فيه في الأوقات المكروهة، فصّلها الزّركشيّ في إعلام السّاجد. وينظر تفصيلها أيضا في مصطلح: (المسجد الحرام).
28 - ذهب جمهور الفقهاء (المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة) إلى أنّ المدينة المنوّرة حرم، له حدود وأحكام، تختلف عن سائر البقاع، كما تختلف عن الحرم المكّيّ في بعض الأحكام، وذلك لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {إنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة} وعلى ذلك فلا يحلّ صيدها ولا يعضد شجرها. أمّا الحنفيّة فقالوا: ليس للمدينة المنوّرة حرم، ولا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها. وإنّما أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحديثه المتقدّم بقاء زينتها، كما ورد في حديث آخر من قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تهدموا الآطام فإنّها زينة المدينة}. ويدلّ على حلّ صيدها حديث أنس قال: {كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال أحسبه فطيما، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النّغير ؟} ونغير بالغين المعجمة طائر صغير كان يلعب به.
29 - يرى الجمهور أنّ حدّ حرم المدينة ما بين ثور إلى عير، لما ورد من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعا: {حرم المدينة ما بين ثور إلى عير}. وورد في حديث آخر {أنّ الحرم ما بين لابتي المدينة}، ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: {ما بين لابتيها حرام}، واللّابة الحرّة، وهي أرض تركبها حجارة سود. وورد في رواية: {ما بين جبليه}.. وقدره بريد في بريد أي اثنا عشر ميلا من كلّ جهة.
30 - يختلف الحرم المدنيّ عن الحرم المكّيّ عند من يقول بوجود حرم للمدينة في بعض الأحكام منها ما يلي: أ - يجوز أخذ ما تدعو إليه الحاجة من شجر المدينة للرّحل، وآلة الحرث، كآلة الدّياس والجذاذ، والحصاد، والعارضة لسقف المحمل، والمساند من القائمتين، والعارضة بينهما ونحو ذلك، لما روى جابر رضي الله عنه {أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا حرّم المدينة قالوا: يا رسول اللّه إنّا أصحاب عمل، وأصحاب نضح، وإنّا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخّص لنا، فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، أمّا غير ذلك فلا يعضد}. ب - يجوز أخذ ما تدعو الحاجة إليه من حشيشها للعلف، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عليّ: {ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلاّ أن يعلف رجل بعيره}. ولأنّ المدينة يقرب منها شجر وزرع، فلو منعنا من احتشاشها أفضى إلى الحرج، بخلاف حرم مكّة ففيه تفصيل تقدّم بيانه. ج - من أدخل إليها صيدا فله إمساكه وذبحه، وخصّه المالكيّة بساكني المدينة. د - لا جزاء فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها عند جمهور الفقهاء، بخلاف حرم مكّة. وفي القول القديم للشّافعيّ، وهو رواية عند الحنابلة فيه الجزاء. هـ - يجوز دخول المدينة بغير إحرام بلا خلاف. - ولا يمنع الكافر من دخول المدينة من أجل المصلحة مؤقّتا من غير استيطان باتّفاق الفقهاء، بخلاف حرم مكّة المكرمة. ز - لا يختصّ حرم المدينة بالنّسك وذبح الهدايا، كما هو الحكم في حرم مكّة. ح - ليس للقطة الحرم المدنيّ حكم خاصّ كالحرم المكّيّ من عدم تملّكها ووجوب تعريفها للأبد، كما ذهب إليه الشّافعيّة. هذا، وقد ذكر الزّركشيّ في أعلام السّاجد سائر خصائص الحرم المدنيّ وأحكامه بإسهاب. وبعض هذه الأحكام تختصّ بمسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كمضاعفة الثّواب، والعقاب، وجواز شدّ الرّحال إليه ونحوهما. وينظر التّفصيل هناك وفي مصطلح: (مسجد) ومصطلح: (المسجد الحرام).
|